"لا تفتح أي حضارة من الخارج حتى تكون قد دمرت نفسها من الداخل"
ول ديورانت




هجرة الأمراء




"فان كان هذا ما لدينا..
اذن فهو أمر رائع...
نحن سعداء و أحبك وانت تعرف ...
...."

تماما مع هذا المقطع المفضل لدي وصلت الا برة الى حافة الرسغ..أتذكر طلب زبوني ان تكون نقشته متعددة الألوان ما يستلزم تبديل خيط البكرة السفلية...اي توقيت هذا ؟؟...وكأنه لا يكفيني من التشويش ما يطالني من الصياح الذي تنتجه تعليقات الحاج الجنرال المقابل لدكاني على مقالات تشافيز الجديدة في محاضراته الطويلة على الراديو..و يتحدث كل يوم عن انجازاتها و كأنه يريد ان يستعيد قسرا ايام كفاح الطبقة العاملة في وجه الأرستقراطية القديمة الجديدة.. دون ان تخلو تعليقاته من التندر على شيخ امريكا اللاتينية يستخرج بها ضحكات الشبان الذين يبدو أنه يحلو له ان يظهر امامهم بمظهر الحليم المهضوم لعلها توازن مظهر الصرامة التي قهرهم بها في عمله وهم بين رائح و غاد و كانها شلة الأستاذ عبودة في مسلسل الشهد و الدموع... لكن ما تلبث ان ترتسم على وجهي ابتسامة تخففها حركة الشفتين لجز الخيط بين اسناني..بعد ان أرى كيف يعرض عنه الشباب عند اول زبونة تمر على المحل حتى قبل ان تصل يدي الى وضع البكرة في موضعها من الآلة لتبدأ شحنها بلفات الخيط الوردي الباهت....
مع الضغط على الدواسة و زيادة سرعة اللف..يزداد ضجيج المحرك..مخلفا ازيزا أشبه بصوت عدم الرضا عند مشجعي الكرة و كأنه يريد ان يذكرني بأن النفقة على اصلاحه قد صارت اوجب من نفقتي على اصلاح نفسي.. و الملفت المضحك المغيظ في آن.. ان ضجيج نقاش الجنرال و الشباب حول افكار الثورات الجديدة يزداد ايضا ...حتى لكأن حبال حناجرهم مشدودة بحبل الدواسة ..أهو عناد الآلة و الانسان ؟؟ أستمع لما يصلني من نقاشهم فهو على الأقل مسل مقارنة بصوت المحرك و أنا منحاز لقومي.. يبدو ان النقاش بينهم انتقل دون مقدمات -شأن كل نقاشات اهل الصنائع التي يراد منها فقط تمضية الوقت- من الكلام عن الرئيس الثرثار الى الكلام عن الفروق بين دول العالم الأول و العالم الثالث و الهجرات بينهما و تفسير ظاهرة الهجرة و عدم اختفاءها مع تفاقم الأزمات الاقتصادية في العالم الأول..ما كان فعلا مثيرا ان يتفقوا جميعا على ان طلب الرزق ما عاد يفسر بالكلية مثل هذه الظاهرة..
فرغم ان تحليلات كثيرة للهجرة السرية قد جعلت من العامل الاقتصادي الفردي العامل الأهم عند جمهرة من الباحثين...لكن كم مرة وجدت هذا العامل غير كاف في تفسير اسراب الطيور المهاجرة ... فان كان فعلا العامل الاقتصادي الفردي قد يكون العامل الحاسم في تقوية دعائم الطبقة المتوسطة في اي مجتمع و بالتالي ترسيخ صمام الأمان لهذا المجتمع او ذاك..الا انه يبقى غير كاف لتفسير امثال هذه الظواهر المقلقة في كثير من جوانبه في عالمي المسلم...اذ من جهة نشهد كما من الهجرة لا بأس به في الدول المتوسطة و المحققة لمعدلات نمو اقتصادية مرضية..و من جهة اخرى طالما شهدت و عايشت تقاعسا ملفتا عن الهجرة من افراد مجتمعات غربية تعيش اوضاع اقتصادية صعبة...
ما يزيد من اللخبطة في تصوري للموضوع الخبر الذي رمقته اليوم و انا افتح حاسوب التصميم في المحل..الصفحة الأولى تتكلم عن امير جديد من امراء المنطقة العربية...يهاجر في صمت مرة اخرى...للاقامة في دولة اجنبية ...تمددت في الكرسي و بيدي عصا تعليق الملابس و بدأت اتامل الخبر الذي ربما لا يستوقف الكثير من الناس...بعد ان شهدنا حقبة هجرة العقول و الأدمغة...ثم بعدها حقبة هجرة الأموال و الرساميل...ثم بعدها هجرة اصحاب الصنع و الخبرات..ثم بعدها هجرة عوام الناس و عمالهم...اصبحنا نشهد الآن هجرة الطبقات الحاكمة في عالمنا ؟؟ هذا فعلا سيقلب الموازين في العادة المترسخة منذ زمان في القاء اللائمة على طبقة واحدة من طبقات مجتمعاتنا...و مع هذا بدأ يتضح ان الفيروسات المسببة لأمراضنا منتشرة في كامل الجسد المسلم و ان بكثافات مختلفة..لكن لا يبدو ان هناك فئة من فئاتنا قد نجت منها او هي بمعزل من معاناة آثار الاصابة بها... ...
لم سيهاجر امير له من الحياة ما ليس لأحد من العالمين ...العربي و الاسلامي ؟؟ بل و ليست لكثير من وجهاء و حكام العالم اجمع ؟؟ لم سيترك كل ذلك ثم يرضى من الحياة بشقة متواضعة في لندن او براغ او نيويورك على هامش الحياة الاجتماعية هناك و يسعى جاهدا ليجد حياة بسيطة عادية لا تحمل من الترف ما تركه في القصور و الضيعات..ان كان للمال فهو اكثرنا مالا..و ان كانت للملك فقد ملكناه علينا..ان كان للهو و آلة الفساد فهي في بلداننا على خفائها اقدر على توفيرها لنفسه ما لا يتوافر للفرد العامي في تلك البلدان ؟؟؟ ......و لا حتى الدمقرطة و المشاركة في الحكم الموفرة لأفرادهم بدرجات متفاوتة تفي بتفسير الأمر...اذ مقامه هناك لا يعدو مقاما بدون فعالية لا في امر الحاكم و لا في امر المحكوم...فما يكون الا ان كان شيئا في الهواء ...شيئا من الذل المنتشر و فقدان الكرامة و فقدان الاحترام للنفس و غياب الثقة غيابا يكاد يكون تاما ...شيئا ان فقد يجعل الجو شبيها بالجو الغائم المحتقن الذي صوره ببراعة الأخوان هيوز في فيلم كتاب ايلي.. و ربما لا يستعاد الا بمراجعة ضرورية الأنفس مراجعة شاملة ممتدة افقيا و عموديا لا تستثنى منه هذه المرة اي طبقة من طبقات هذا الشق من العالم ..
وما يمكن ان يشعرك بضرورتها بتوافق مع شعورك بمغص في معدتك :ان تتنبه لتفصيل مهم من ان المهاجرين من اهل القمة في بلداننا غاية مطامحهم ان يعيشوا على مستوى فرد من القاعدة في بلدان الغير...هذا ان نالوه هم ايضا ..اذ اغلب الظن انهم ايضا سيشعرون بما يشعر به عامة من هاجر من الرفض المبطن و استحالة الاندماج.
تبادر لذهني من قول اميرالشعراء بيته :انما الأمم الأخلاق ما بقيت..بتفكري في مضمونه المركز على ايصال قيم مثل العدالة و الحرية و المنع من الضيم و العبودية و الحلم و الصمت و الأمانة و الاحترافية و امثالها من القيم الاجتماعية الشاملة الى القاعدة الاجتماعية العريضة...ادركت انه لا يجمل بصاحب منطق ان يظن ان فقدانها في مجتمع يكون نتيجة عاصفة تاتي عليها في ليلة واحدة..و لا بثها في جسد المجتمع يأتي من جلسة واحدة في مشفى تحقن فيه دفعة واحدة...نعم..يبدو لي ان الآثار المادية لتخلف هذه القيم و انتشار اضدادها من الفيروسات الاجتماعية هو نتيجة قرون متطاولة الأمد اورثث قسوة القلوب هذه...قرون تتابع الناس فيها على فصل المقدس عن الحياة..على رفعه منها ...نتيجة ما انكره المصلحون قرنا بعد قرن من الفصل بين الظاهر و الباطن..من فصل الحقيقة عن الشريعة..فصل الغيب عن الشاهد ...او بعبارتنا من فصل حقائق الدين و مقاصده عن سنن الكون و علله..ما كان هذا ليتم بعيدا عن الأخلاق فالكل مرتبط برباط واحد...و لا يحق لك ان تتهم الأصل بالوهم...و تثبت الفرع..و لا ان تنقش العرش دون ان تتبثه...فان كان وجود المعصوم وهما و هو الأصل..كان وجود ما ليس معصوما اكثر استحقاقا لصفة الوهم و استتبع كل ذلك اطلاق الوهم بكل ما يظن مانعا من تحقيق ما يراد...بدعوى عدم العصمة..

نعم الدين كأمر الله و تسييده و عيشه..قد يستتبع مخاطرة تسييد الدين الفاسد و اتخاذ الأحبار و الرهبان اربابا..و تغول الشر من خلال ثياب الخير الذي لا يرد..فان كان متيسرا رد الشر حين يأتيك بلباس الشر...و كذلك رده اذ تعرف انه من انسان غير معصوم مثلك..فيكون رده سهلا..لكن ان أتاك بلباس الخير نفسه كان اسهل للتغلغل فيك و انت قد امنت له..و ان اتاك باسم المعصوم كان اصعب في الرد..لكن مفسدة الصعوبة في التمييز بين الحملان الحقيقية و الذئاب المتخفية في اصوافها..لا تصل الى مفسدة الرد الكلي للامر المعصوم الحاكم بين طوائف الاختلافات الجسدية و العقلية و النفسية..كما ان مفسدة الاختلاف في تحديد الأصلح على ضوء هذا الأمر المعصوم ايسر من مفسدة الاختلاف في تحديده في الظلام الخالي منه... اذ يستلزم ذلك نفي الأمر الضابط لمجموع شهوات و رغبات الأنانية الانسانية و الضامن للحد الأدنى من شرائط الاجتماع و الذي يعطي الناس المبرر الأعمق الوحيد المجيب عن السؤال : لم يجب ان نتعايش؟ لم يحرم على ان آخذ دون ان اعطي؟؟ لم يجب ان لا اكون عبدا لشهوات نفسي ما دمت لست عبدا لشهوات غيري مع اني قد لا اعيش الا حياتي هذه؟؟؟ ربما لهذا كان كلام الملحدين عن ان الدين افيون الشعوب فيه وجه من الحق في شق منه بأنه ضروري لسياسة الجماعات البشرية و تحريكها مجتمعة لمصالحها دون ان يكون لازما ان يصح في شقه الثاني من كونه مخدرا او وهما...اذ قد تساس الجماعة بالحق و قد تساس بالوهم ...و الخلاف في نجاعة السياسة لا في مطلقها ..لأن المتدينين لا ينكرون ان مقصد الدين سياسة الجماعات و التحكم بها فيكون كزوبعة في فنجان و مصادرة على المطلوب...وربما لهذا اشتهر بين محققي علم الاجتماع ان الدين اساس التمدن في المجتمعات و الخروج من الحيوانية الوحشية و محركها الأول و الأقدم نحو هذه الغاية..و ان لا انتاج من انتاجاتها من القانون و السياسة الى الفن الا و للدين منة عليه ...و ربما لهذا ما كانت امة سعت للقيام و الوحدة و النهوض الا و بحثت عن امر معصوم من التوحيد يقوم به امرها و تبني عليه مبادئها و تتلمس مقاصده في كافة المجالات التي تجعل الحياة اكثر امتاعا و توازنا في الصناعة و الابداع و الفلاحة و الفن و الثقافة و العلاقات الاجتماعية و تمدها من بعد حتى توصلها معاني و قيم هذا التوحيد الى ابسط الفعاليات الاجتماعية و علاقاتها من التواعد لجلسة اصدقاء في ليلة صيف الى التواعد في التحرك لنشر مشروع علمي بدأ بحلم و ربما لهذا لا تنخرم هذه القاعدة في امة من الأمم و....وتوقفت البكرة عن الدوران و اعادتني الى الخيط الوردي و الحاج و الشباب و الزبائن و الراديو....
"الشمس قربت على الشروق...
و أصدقاؤنا يقولون وداعا...
لا مكان آخر نمضي اليه...
فأرجو ان تبقى هذه الليلة".....