أشتهي ما لايكون..أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس.
أحمد بن حنبل





مقياس كل شيء






خمسة عشر في المائة..خمس و عشرون في المائة..سبعون في المائة..سرعة تقدم الوحدات الزرقاء لمقياس التحميل تبشر بحسن اختيار موقع طريق الاسلام للخادم لايصال المعلومة في هذا العالم الافتراضي الكبير...فلنر ما سيكون من مقتطفات هذا القارئ الجديد...تسعة و تسعون في المائة...
-دورك يا قرصان..لدي متهم جديد ينتظر التحقيق
لبثت زمنا قبل أن أجيب بنعم...عجيب كسلي هذا...السيدة كروان لم تتلكأ و لم تتاخر قط عن اخذ قياسات النساء عندي ...مع انها لخبرتها تعلم ان عدد النسا ء من الزبائن اضعاف عدد الرجال ..و بعدها اتهكم على شكواها المتواصلة من لؤم الرجال...سأشغل المقتطفات و ارفع الصوت و استمع من الجوار...
أخذت شريط القياس و جلدت به في الطريق البامبو الذي لم يفلح سوطي في قطع نقاشه الساخن مع أبي عبد الله حول سلسلة القادمون الا بقدر سبة أضحكتني و اقامت دنيا ابي عبد الله عليه و لم تقعدها...
اوه ماي جود...قلت للسيدة كروان دون صوت بعد معاينة المتهم و هي تعرفني به و بصداقته للجنرال...
هذا سابع زبون بدين...و كأننا لسنا في أزمة غذاء عالمية حادة.. ربما ما قالته المستشارة البلهاء ميركل يكون صحيحا من ان سببها هو ان العالم الثالث اصبح يفرط في الوجبات
-الأخ زوجك؟؟..
و فضولي أيضا؟؟!!لا أستغرب اذن عنق القميص الصدئ هذا و انا اقيس عنقه الذي لا شك لا يدع الاحتكاك بثوب قميصه من كثرة الالتفات...
-لا ليس زوجي قالت السيدة كروان و هي ضاحكة...ابنتي في مثل عمره ...
نعم ...بدين ..فضولي و أعمى أيضا!!..
فلأرى ان كنت سأستطيع قياس ما اذهب منه الفطنة..
-زوجيها له اذن...
ربما لا يكون سيئا جدا كما تصورت...ابنتها ذكية و ذات تحصيل علمي عال...
-رأيه سيء في الزواج..اسأله ربما تفهم منه ما لم أفهم...
انتهيت بعد ان كنت اظن اني لو كلفت بقياس محيط الأرض على طريقة بني موسى لكان ايسر..و أعجب من بدنته سرعة حركته و هو يأفل من الدكان..
-ما لاأفهمه أنا كيف يكون رأيك في زواج هذه الأيام ورديا بهذا الشكل ..
..قد تركها زوجها لحظها أياما بعد ولادة مولودهما في مدينة الضباب و لم تجد الا دكان ابيها كافحت فيه ربع قرن حتى كسبت سمعتها في المحلة
- مستحيل ان يكون قياس الكتف بهذا الطول...
-و هل ترك الشره فيه معقولا ..
سألتها فجأة بعد أن قيدت قياسات الزبون في المحضر...:
-ما تظنين؟ نحن أفضل أخلاقا ام الغربيين؟
استمرت في الحسابات التعديلية..و كأن السؤال لم يفاجئها...و ان كانت امرأة لا تنفعل و لا يظهر عليها اثره
-كثيرون منهم لطفاء..مظهرهم لطيف...زوجي كان لطيفا جدا..
زوجها نشأ في الغرب...لاحاجة لأن تكمل اذن... استويت بقصد على دكتها التي يغيظها من يجلس عليها..بينما أحاول صرف وجهي عن ممر الشيخ بهلول من امام المحل فلطالما صلقني بعباراته التي لا يضاهيها في حدتها الا بخوره .. ..
- ربما الوحدة التي عانيت منها كروان..هي التي يحتاج لتذوق بعضها المسؤولون عن بث الكرامة و الأخلاق فينا
خرجت ملتفتة يمنة و يسرة الى أن استقرت نظرتها على دكان الجنرال...
-اذن فهذه الفلسفات هي التي أخذت بذهنك حتى ما أتقنت عملك
خطفت متر القياس من يدي و ذهبت الى محل الجنرال لتستشيره في تعديل القياس فلربما البدين ما زال عنده او لتشتكيني ربما..تذكرت مع رؤيتي للمتر في يدها يترنح قولة سولون لطالبي الخير الكثير الذي يأتي من وراء الحكمة : أوجد مقدار القياس..بتوافق ملفت مع وصول قراءة الى مسامعي لقوله تعالى وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ...و صوت من بعيد يبعد اكثر فأكثر كلما استغرقت في التفكير :
-وان عدت ووجدتك على دكتي....قتلتك
ما يفتقد في علماءنا اليوم مما قد يجعلهم قادة و اولياء امور...هو ما يفتقد اليوم في المثقفين و وجد في العلماء القدماء الذين هم اقرب الى روح المثقف المعاصر الطلائعي التقدمي..ما ألمسه في عامية كالسيدة كروان من عزة الوحدة و كرامة العزلة مع ان الأصل في تصرفات العامي الاختلاط و التواصل..و ما المسه في بهلول من الاهتمام و حسن المداراة مع ان الأصل في العابد العزلة و الوحدة...يقبع بينهما شبر او متر..او ذراع...او وجود كامل..لا يحسن قياسه الا العالم المثقف الجامع لما بينهما..رغبة هذا القياس قد تنبع من نفس طبيعة العالم القلقة الشاكة على حد تعبير عبد الرحمن بدوي التي تملك ذلك الشعور المتطور و المطور للأمة المومنة ..و ان كان جانب الصواب في اختيار نماذجه في مقابل تبرمه من النموذج السني السلفي انطلاقا من مجانبته الصواب في اعتبار الرمز الديني و كلمات الله اللامتناهية قابلة للتفسيرات اللامتناهية و المتناقضة في نفس الوقت لا المتآلفة بنص القرآن الذي ينفي عنها التناقض في كل مستوياتها من الانشاء الى التأويل..و لو كان تنبه آنذاك لنظير الأمر الشرعي من الأمر الكوني من وجود الجوهر مع انقسامه الى ما لايتناهى في ادراكنا لأدرك الفرق بين شك و شك ..هذ الشك الابراهيمي الذي لا يترك قلب العالم بطمئن ليقين حتى يرمي به من جديد في فضاءات الكون و الخلق و الأمر بحثا عن يقين أكبر و تحسين القياس الموجود في نفسه و الذي به يقيس الموجودات .حتى يصل الى تحسين الصورة الذهنية و النفسية عن ظواهرية الوجود مع كل تحسين لمقياس نفسه..و هذه الدورة بين النفس و بين الأمر الكوني و الشرعي هي التي تشكل عجلة تمنح العالم مع دورانها نوعا من التماهي ارقى من تماهي العامي و العابد مع نفس المحيط و تأثيرهم فيه.. يجعل العالم وسطا بين نزق و تهور العامي و ركون و انزواء العابد...عالما حركيا فيه شجاعة و استقلالبة و حرية و مسؤولية ناتجة عن خلطة الفضول المعرفي عند العامي و اليقبن العبودي عند العابد ..و يمنعه في نفس الوقت الكبر و العجلة و كثرة القيل و القال في امثلة عزت نظائرها اليوم كالمقدسي او ابن حزم او ابن تيمية او مثالي المفضل حجة الاسلام الغزالي
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى...يبدو ان صوت هذا القارئ سيشغل ايامي المقبلة..فقد خدرني تحبيره للآية أن احس بجلدة البامبو الانتقامية على ظهري رغم قوتها...
من أين خرجت تلك القوة؟؟ كيف استطاع هذا الشعور القلق ان يسيطر على تفكيره ثم شعوره ثم وجدانه التام حتى أمرضه؟..حتى لم يعد يجد ذوقا لكل المناصب الرفيعة و الجاه عند السلطة و العوام و الشهرة الكبيرة في الأقطار حتى غدا من الشخصيات العامة في بغداد او على حد تعبيرنا سوبر ستار؟ تسافر اليه من كل الأقطار افواج الصحفيين و مقيدي المقالات لمقابلته و استجوابه فيما يشبه اللقاءات الصحفية لمراسلي الثقافة في أيامنا.. هذا مع رصيد كبير من الانجازات العلمية الابداعية و تحقيق كل ما يتمناه أي مثقف طموح في عصره متبؤءا احد المراكز العلمية الكبرى التي تتشوف اليها انظار العلماء و الأساتذة ؟ و لم تقنعه كلمات كثير من فقهاء الرسوم و فلاسفة الأوضاع كما كان يحلو له تسميتهم في وصف واقعه بأنه مزدهر..حتى صارت به يد خفية من حال الى حال الى ان اقتنع اقتناعا تاما بضرورة اعادة تأسيس كافة العلوم المسيرة للدولة لاستشرافه بين قلة من مثقفي ذلك العصر الى ما ينتظرهم من تحديات مستقبلية في مسلسل الصراع القادم امام المغول من اليمين و الصليبيين من اليسار
خرج الى البييداء و الصحراء و ترك وراءه العز و الجاه و المنصب العلمي و التعظيم و كأنه ولد من جديد في بحث عن هذه القاعدة التي تستطيع تحمل التأسيس الجديد للعلوم الاسلامية لقرون أخرى..ليعود بقياس جديد من نفسه ثم الى كل الوجود الخارج عنه قياسا لشخصية جديدة صدمت حتى صاحبه الحكيم المؤرخ عبد الغافر الفارسي الذي كان من اكثر الناس مقتا لشخصية الغزالي المغرورة المتكبرة المتعالية التي لم يضبطها مقياس مقدر يردعها عن بطر الحق ان رأته و غمط الناس...و قفزه من حال الى حال كما تقفز ابرة النقش بين اصبعي الجنرال دون ان تؤذيها و دون ان يرفع رأسه الى السيدة كروان..لاأرى البدين..فيم يتحدثان؟
هذه الحياكة بين اليقين و الشك و الوحدة و الاختلاط الذي ميز حجة الاسلام و مسيرته وجدت له توافقا غريبا يكاد يكون مطابقا كما تنبه له كثير من الباحثين..في الديانتين المجاورتين..عند القديس أغسطينوس و عند الحبر موسى بن ميمون...العجيب ان الثلاثة كانوا يحملون نفس هم الاصلاح ...أتوا في نفس لحظة الفتن و كثرة الفرق و المقالات...ثلاثتهم خرجوا من رحم الاعتزال و التجهم...ثلاثتهم دخلوا مغارة أفلاطون و استعصى عليهم الخروج منها ...ثلاثتهم شعروا بأهمية التوحيد و ضرورته للتطور و النهضة في مقابل اشكاليات الالحاد و الشرك المنتشرة..مع الاعتذار للامام الشوكاني فيما يخص موسى ابن ميمون و غفلته عن نسبية الباطل في فرق اليهود مقارنة بنسبيته في فرق الاسلام ..نسبية الحق الأقوى و المحفوظ في احدهما و الأضعف في الثاني مما ادرك صديقه القاضي الفاضل أثره في توزيع مقالات الناس و سيرهم ...و لعل هذا ما جعل حجة الاسلام يتميز عن الاثنين بوصوله في آخر حياته الى الفرق الذي لايتبدل و الأصلح لتأسس عليه كل المقولات النسبية المتغير من تلال الرمال الفكرية...و تحقيق معادلة التغيير و التجديد دون التحريف و لا التقليد...و ان كان ذلك كلفه حياته كلها..ربما لهذا كان حجة الاسلام الاسم الأبرز بينهما فيما بعد لمؤسسي النظرة الاصلاحية الأنطولوجية عند المواجهين للرشدية ..فمؤلفاته المتأخرة يبدو أثرها الواقعي في نهضات القرن السابع و الثامن الهجري جليا عدا عن نهضة القرن الخامس عشر الميلادي فما بعده..
بالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ....في صوته نوع حزن لكن ينقصه نوع تحكم فيه؟؟ ربما...
هذه الجدارية في محلي لمسجد رسمه دي لاكروا..من بقايا شغفي القديم بالفن الاستشراقي و الذي لم اجرؤ ان اكلم فيه صاحبي الأقل معرفة..حياءا من أن يظن بي بغية التعالم عليه في فنه..تذكرني بلوحة الغريب الأطوار جورجيوني..الحكماء الثلاثة...هذا الخصم العنيد المراوغ للكنيسة التي لم تكن تخفي عداوتها له لميوله التوحيدية..و تمكنه من الافلات من سيطرتها بما اوتي من الاطلاع الواسع على التاريخ و المذاهب و الفلسفات و الأساطير و قدرة على تشخيص المفاهيم السائدة في عصره والمناقضة لها في ثوب الموافق لها ...مع ولعه بمبادئ الوجود الأولى و تناغم الوحدة و الكثرة و الاختلاط و العزلة ما بدا واضحا من اسلوبه في منح وحدة منسجمة غير قطعية الحدود في لوحاته بين الضوء و المناظر و الأشخاص...كما لو انه يريد ان يجعلك تفكر في وحدة الأشياء التي يجب ان يمر بها المتدبر و المتفكر في بحثه عن القياس ..الضوء..النظر..الحقيقة..هذا التماهي في ريشته في استعمال الألوان و ما يحمله من اشارة الى التماهي بين الطبيعة/ النموذج الخارجي و بين الانسان /العالم الداخلي...التماهي هذا الذي خرجت لأجله و للتوفيق بينه و الهداية في خلقه كافة الديانات...كما لو أن جورجيوني الماكر يريد ان يرينا انتاج النموذج الباطن للنموذج الظاهر في شكل اكثر انسجاما كما تنتجه ريشته...مختصرة ببراعة كل النقاشات التي كانت تدور في فناء جامعة بادوفا حول دور الطبيعة في ربط الانسان بخالقه...
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت...عزمت على انزال سلسلة هذا المقرئ يبدو انه وصل من نفسي الى قريب مما وصل اليه الشريم ..
سيطرة المغارة الأفلاطونية على اللوحة تكاد تكون بديهية...مع بداهة تواجدها في الصحراء لحظة بداية الديانات الثلاث...في رحلة البحث عن الحق و التأمل في الوجود عند الأنبياء الثلاثة صلوات الله عليهم...بدليل المناخ الصحراوي بين الأشخاص الثلاثة و المغارة...بخلاف المناخ الخصب البعيد في الخلفية..عزلة ووحدة و جفاف...و هو أيضا نفس حال الفلاسفة الثلاثة المتبعون للديانات الثلاث..فرحلة الغزالي و ابن ميمون و اغسطينس و ارتباطها نوعا ما بالصحراء معروفة..و لولا كثرة الترميز في اللوحة لجزمت انهم المقصودون بها اذ لم يكن في فترة جورجيوني من كان له تأثير أكبر من هؤلاء الحكماء الثلاث...خاصة مع توجههم الى المغارة..و الضوء الخارج منها...و ان كنت لا أستبعد ان جورجيوني ايضا يقصد وصف احوال الديانات الثلاث من خلالهم ..من منظوره هو طبعا..فتعابير الوجوه مختلفة اختلافا بينا...فالمسيحية شابة حالمة و تولي اهتماما اكبر لزينة الحياة الدنيا من خلال امساكها بآلتها الموسيقية...و ان كانت تبدو تائهة و غير مركزة...و اليهودية صارمة و عجوزة و ذات خبرة بامساكها لنص الشريعة في يدها و ان كانت نظرتها الغاضبة منفرة ..و المسلمة متوسطة بينهما آخذة بالوسط في كل شيء جامعة بين افضل ما لديهما..من تعابير الوجه الى الحركة الى السن..مع بعض ميل--بحسب نظرة جيورجيوني - الى اليهودية ..لكن جيورجوني في عصر كان الكلام فيه عن الاسلام بخير من المحرمات لم يكن ليترك لوحته دون ثوب يسترها..فلهذا انتشر عند الكنيسة ان اللوحة هي تعبير عن رحلة الملوك الثلاثة في بحثهم عن مولد الطفل يسوع...محزن أليس كذلك
غريب..لم ألحظ عودة السيدة كروان..و أنا مازلت جالسا على الدكة..و هي فوق ذلك تبدو كما لو أنها تكتم سعادتها...
-بدأ غضبك لجلوسي على الدكة يتحول الى فرح؟
عدلت الثوب و دفتر القياسات..و أخذت هاتفها النقال و بدأت ترقم..
- لا يا شقي ..خمن ماذا قال لي الجنرال...سوف يطلب يد ابنتي لابنه ...
لم أكن أفقت بعد من مزيج الحزن و الفرح المتعادلين عن تلك اللوحة حتى قلت في نفسي:
-أنجزت ما وعدت..لقد قتلتني..