"الناس نيام . فاذا ماتوا انتبهوا "
علي بن أبي طالب




الصبر و اليقين (الجزء 1)



السلام عليكم و رحمة الله..بدأت احس بنوع ضوء يدخل..أقفل عيني ..و أفتحهما في رمشة..لعلي أستطيع استيعاب كم جزئيات صور أركان المسجد التي تتراكم على دماغي مع ايقاد الأضواء من افواج الناس الذين دخلوا مباشرة بعد انتهاء جماعتنا...كل ذلك خلف في نفسي راحة أصبحت أحس بها اكثر فأكثر بعيد كل صلاة...السلام عليكم و رحمة الله
-لا يجب ان تنصب قدميك معا عند الجلوس..يجب ان تنصب واحدة فقط
نظرت الى عويطة القهوجي و هو يرتب الكؤوس بخفة في الغرفة شبه المظلمة كالقبر بجانب المسجد...عجيب كيف تتأقلم الحواس البشرية مع محيطاتها
- يجب يا أبا عبد الله ؟؟
يعجبني فيه ابتسامته الدائمة و صمته ...و لا أدري كيف يجتمعان فيه مع قلة معلوماته و حماسه الى حد التصلب احيانا..مع ان العادة انها لا تجتمع..

- هي السنة يا سيد..

السنة التي انتقلت -في نظير قنوات نقل القرآن لكن برتبة ادنى- كمعلومات مثناثرة في النسيج البشري عبر الزمان و المكان.. في أرشفة تمت تركيزا و انتشارا ثم تركيزا تارة اخرى ثم انتشارا.. حتى يتيسر لكل أحد الوصول اليها دون ان بتمكن احد من الاحاطة بها -كما يقول الامام الشافعي-و من ثم التحكم بها و استغلالها و تحريفها لمصالحه...ربما يرد فيها بعض ما يمنع من الجزم بهيئة واحدة من هيئات الجلوس..

- انظر كيف اجتمع المشعوذ بالساحر...

قالها أحد البزازين لأصحابه بصوت لا يساويه في انخفاضه الا معناه...ظنا منه انه لن يبلغ مسامعنا و نحن مارون بمحله الا ضحكاتهم على ما نبزونا به...أنا من جهتي لم يؤلمني نعتهم لي بالساحر اذ ليس منهم من يواجهني بها الا و ألقمته الحجر..لكن يؤلمني رؤية أبي عبد الله متألما أن لم يقدروا حسن تدينه..فهو يعلم انهم ما نبزوه بالمشعوذ الا لعنصره المنحدر من اواسط البلاد من قبائل اشتهرت بالشعوذة...مثل هذه التفاصيل اليقينية تزيد من تجلية صورة النبوة التي وضعت في ذلك الرجل المبعوث بين القريتين و ترفعها أكثر فأكثر في نفسي..نعم هذه من أربع خصال من أمر الجاهلية الجهلاء لن تتركها هذه الأمة في سبيل تحقيق دولتها المدنية البعيدة عن جاهلية القبائل..و التي ان أراد العالم الاحساس بها فضلا عن معالجتها فلا بد له من النزول الى ظلمات العوام ...الأفضل ان لا ابدي احساسي بألمه و اتركه حتى نصل للمحل و المامبو الخبير في اخراج ابتسامته كما عناده ...مررت على الجنرال لأخذ الموبايل و المفاتيح دون ان يشعر بي ..فهي لحظته التي لن يطيق فيها ازاحة عينيه المتسمرتين على التلفاز و أخبار المظاهرات

يوم طويل آخر بدأت ستائره تسدل..فكرت و ان اسدل الستائر و اقفل الأبواب ..بين يوم و ليلة يمكن ان تفتح ابواب و تقفل أخرى في السماء كما في الأرض...فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين...أشم رائحة دخان..لاأريد أن ألتفت..بليـــز لا تكن هو...

-حـــــــــــــــي ..!! الجسد في الحانوت و القلب في الملكـــــــــــــــوت....

أدرت ظهري كأني لم أر و لم أسمع و لن أتكلم ...فلأواصل اغلاق الستائر و لأصلي ليمضي قبل ان يأتي أحدهم ..منك لله يا بهلول على لحظات الرعب هذه التي تجبرني على المرور بها...لم أعد أشم رائحة دخان...لكن أسمع خطوات تقترب..

-أرأيت آخر اختراعات أصحاب اللحي هؤلاء
أخزيت يا مامبو سائر اليوم فقد أفزعتني...ما كدت أقفل حتى اندفع الزوج بنقاشهما الجديد..هذا يفسر لم احسست بأني سأدفع ثمن التسرية عن ابي عبد الله...
-هذا المجنون يقول ان المظاهرات محرمة
كالعادة المامبو مندفع و أبوعبد الله مبتسم لكن كلاهما يبدوان متفقين على عدم اعتبار احتمال صواب مخالفه
- لا علم لي بالدين يا متشردين..تعالوا و تناقشوا في الفيزياء في الفن في الرياضة و سـأكون أكثركم عنادا...لكن الدين الخطأ فيه ثمنه باهظ
لا أدري لم ..لا و لم و ربما لن ينفع قط ما قلته في ان يردهم عني في مثل هذه المواضيع...و كأني لم أقل شيئا....
- قل له..و ما ستفهم انت فيما يقوله العلماء قلت لك: نحن تبع لهم..رأيهم أحسن لنا من رأينا
رفعت برأسي موافقة له على المبدأ العام...
- ..نعم علماء تحريم البوكيمون
أثارني أنا ايضا هذا التعليق و لم أستطع حسر نفسي عن أن أقول ما ينقض حيادي الظاهري..
- نعم..حين يحرمه هؤلاء يكون سفاهة..و حين يحرمه كتاب أمريكيون في سوث بارك للتحذير من الاختراق الثقافي الياباني يصبح زين العقل و النباهة عندك... صح؟؟
أضحكنا ابو عبد الله حين سأل ان كنا نتحدث عن جمعية كتاب أمريكية تكتب في الحدائق العامة في جنوب أمريكا...و ان كانت الهدنة لم تطل حتى بدأ الاشتباك مرة أخرى..
- هات لي شيخا معتبرا أفتى بجوازها..
- الشيخ مصطفى..قل شيئا عنه و سأجعلك فضيحة
- لن أقول شيئا عنه..هو ممن درس العلم مع الشيخ ربيع في الجامعة الاسلامية ..لكن الشاذ لا حكم له

شعرت أني سأبقى رهين المحبسين ان تابعت النقاش و الفضول يكاد يقتلني...حاولت حسم النزاع بقولي أن الحق مع كليهما ...
- لابد أنك أكثر جنونا منه...كيف يكون الحق مع كلينا
تركتهما على وقع كلمة قلتها انا و المامبو معا...مع فارق وحيد..أني قلتها في نفسي و هو صاح بها ساخرا :
-غبي...

اندفعت وسط المطر الذي يبدو أنه ما عاد يتأخر عن موعده منذ سنين و كأن السماء تنذر بنبأ عظيم...و الليلة مظلمة دون قمر..و الدنيا خالية من الناس..أسير وحيدا بخطى سريعة.. وضعت الراديو لسماع الأخبار أين وصلت الدائرة...لا شيء في الوطنية غير الاعلان عن تأجيل مباراة ...يا لهذا التوقيت مرة أخرى...أفسدوا علينا الاستمتاع بمباراة نجومية لا تحصل الا مرة في العمر..لابأس فلنغير على القناة الأمريكية...يخترق صوت سعاد الجزائرية مسامعي بأغنيتها الخير و الشر في أواخرها...و كأنه يحاول تهدئة الأمور في هذ الليل..و المزن يزيد من تصويب طلقاته على أهل الأرض ...كدت أصطدم بمنصة يسحبها صاحب محل أقراص الديفيدي خوفا عليها من البلل ..رمقت عيني اشهار فيلم "الفطرة" ...
- هل تفكر في ما أعدت قرائته اليوم في المنقذ من الضلال ..عن الناقض للثقة بالعقل؟
أهملت حديثه و لم أحب التفكير فيه...فالفيلم يتطرق لاشكالية عولجت منذ عهد الفراعنة الذين جعلوا مصر جنة تسري من تحتها الأنهار و رغم ذلك ما بقين و لا بقوا ..من اشكالية الموت و الوجود و النوم و الموت...و ارتباط كل ذلك بالانية في الفناء او العدمية...و ارتباط كل ذلك بالعلم و عزلته..و كيف لا..بالعلماء ...كثيرا ما بدت هذه المسألة للناس كمتاهة بقدر متاهة الحياة نفسها..كمتاهة حدائق الأندلس التي تضيع في مسالكها الدقيقة على حد تعبير ابن السيد...
- أليست مصادفة غريبة ان يختار مدير التصوير مدينتك التي ولدت فيها كأنسب موضع للتصوير لمتاهتها المعمارية؟
أجبته ربما...و أمسكت بقبضتي كرسي كسيح كان يدفع كرسيه بلا جدوى مع الانزلاق الذي كان يحد من تقدمه أمام جحافل سيول قطرات الغيث...فلندفع بالموضوع الى الأمام...القصة تعرض لها الكثير و هي مشابهة لمسرحية كالدرون دي لا باركا الحياة حلم..و قدر سيجيسموندو بين الحلم و الواقع فيما يشبه قدر زينهم في مسرحية الزعيم...لها أصولها في ديانات الهند و ايران و اليونان و مصر و بني اسرائيل...
هاليلويا...هاليلويـــــــا...أغنية أخرى في هذه الاذاعة الأمريكية و كأنهم يودون ماأمكن تأجيل الأخبار...لكن على الأقل تعيد الي ذكريات شريك الجميلة..هذا الغول المضحك الدميم المنعزل
- دعك من هذا الهماز..كل شيء بقدر...فكان ماذا؟
ألا تكفيني لمة هذا حتى تضيف علي أنت لمتك بقولك؟؟..و الكسيح صامت ليته يتكلم ..ألن تدعاني بسلام انتظر الأخبار بصمت؟؟...ليت هذه اللحظة تمر علي كمرورها على من ظنوا أنهم لبثوا يوما او يومين مخترقين بنومهم جدار الزمان و المكان..
هؤلاء الفتية بعزلتهم في الكهف ..سورة كاملة باسم الكهف..هربا بتوحيدهم..هذه القصة التاريخية التي ذكرها غيرما واحد من مؤرخي الروم السريان كما قال الطبري و وجد مصداقه في كتب بعضهم..كما لو أن العزلة المتحدية للقدر بتوحيد الدعاء و الطلب و القصد في عدمية الوجود تصنع و تغير الأحداث في التاريخ على يد الفتية..الشباب ..ذوو القلوب المرهفة..هؤلاء الشباب السبعة في برد أفسس..و ذلك الشاب الوحيد في ليل حران...و ذلك الشاب الهارب في صحراء سيناء...و الشاب السائح في قيظ ساعير...و أنت ايها الشاب المتأمل في أعالي فاران...لا عجب اذن ان تكون وصيتك قراءة أول عشر من آياتها على أكبر فتنة لفلسفة الكهف الفرعونية منذ خلقت هذه المصفوفة..و طبعا سيكون مضيعة للوقت تخمين فئة العمر التي ينتمي اليها اول من سيشكل تحديا حقيقيا لهذا الديكتاتور المتلاعب بهندسة الوجود المعمارية...كيف غاب عن المهندسين لشوارع هذه المدينة الصغيرة أن يضعوا في جسابهم وضع منحنيات على الأرصفة..ان كان رفع كرسي الكسيح على الرصيف يكلفني كل هذا الجهد فكم سيكلفه هو؟؟ فلأعبر الشارع قبل ان يتوقف الرجل الأخضر في اشارة المرور عن جريه السريع..يغيظني هذا التماطل في ايراد نشرة الأخبار و هذه المقطوعة الغنائية البطيئة التي تبدو بلا نهاية
..
أتذكر حين كنت أتحرك اليك..الظلمة المقدسة كانت تتحرك أيضا...و كل نفس استنشقناه كان هاليلويا.....



توبي كونتيود