III - يوميات حائك : أحجار على رقعة الشطرنج
"لو أقمت فيكم خمسين عاما، ما استكملت فيكم العدل،
إني لأريد الأمر من أمر العامة، فأخاف ألا تحمله قلوبهم،
فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا"
عمر بن عبد العزيز
أحجار على رقعة الشطرنج
بياض...في سواد ...جبنة اكثر بياضا و مذاقها منعش...ربح البيع ان كانت منتوجا وطنيا..على أن اتذكر النظر في العلبة حين اعود للبيت..و تكون استكملت حلقاتها لو ان الجودة قد وفرت بثمن بخس قادر على المنافسة..لو سألت القيم حين الدفع لعده بخلا..و ما سأقول له.؟ انما اسال عن ثمن الجبنة للاطمئنان على العجز في الميزان التجاري في البلد؟؟ لأعطيته اذن فرصة عمره لكي يرد لي الصاع الذي كلته اياه حين هنأته بتجديد محله و ان لا ينسيه بخله تجديد هندامه ....افضل له و لي ان ادفع و انسحب مباشرة قبل ان يخرج اطفال المعهد الانجليزي و تصبح مهمة عبور الشارع اصعب من عبور ابواب المساجد في الجمع...و ايضا قد لا آمن ان أجد البامبو قد ترك الدكان و انشغل في المناظرات الكروية و اليوم يوم اثنين و بطولة الانجليز-شياطين التجارة- لا تريد التوقف حتى حين تتوقف نصف بطولات العالم..
لكن قد اسات الظن..فالبامبو في مكانه مستقر..مستقر زيادة عن اللزوم..صامت جدا و الأدهى ان عليه مسحة لا ادري اهي من قهر ام من كبرياء...
-هذا الجنرال ما عاد يعرف الى اي حد لسانه جارح..
-نعم..قلت..لكن لن تجادلني في انه يحسن اختيار المرهم...
نظرت اليه بينما كنت اخرج الأثواب و انشرها لأبدا التصميم لعمل الغد...استغربت لأول مرة لم ينادونه في المحلة بالبامبو..فلا وجهه مفلطح و لا قده ما شاء الله عليه كاعواد النبتة...
-و ما ينفعني دواءه...أنا اصلا لاأظنني اتوافق معه بعد اليوم...
أي ثوب هذا الذي اتتني به هذه الزبونة سيخرج مني لعنة الفراعنة قبل ان أكمل حياكته..كان علي ان أتنبه لملمسه حين المفاوضة..أي حرفة هذه التي يجب ان تستخرج حسنتها من بين سيئتي الاستخدام و الاتجار...
-لو كنت تصمت اكثر لأنتج ذلك انسجاما و احتراما اكبر بينكما
تركت الطباشير لآتي بالمقص لأضعه بجانبي قبل ان تأخذه السيدة كروان..و التي طبعا لن تفوت الفرصة للتعليق:
- انظر من يتكلم عن الصمت و الاحترام و الانسجام..
-قولي له ..أنت أصلا نصف المحلة تشتهي حرقك بالبنزين و النصف الآخر لا يمانع ان يدفع ثمنه
انا الذي يحتاج الآن للبنزين لحرق هذا الثوب اللعين ...او أفضل من ذلك حرق كل الصين ... التي تقذفنا بهذه الأثواب السيئة الذكر..مع انهم يحيكون ملابسهم التقليدية بجودة معجزة جعلت مني مولها بفنون الشرق الأقصى ...و كانهم يحتفظون لأنفسهم بأحسن ما في ثقافتهم من الجودة الابداعية و يرمون للعالم بالنفايات النووية لطاقتهم العاملة..و كأننا لم نكتفي فها هم الأتراك بدورهم أصبحوا يقذفوننا -بقدر ما يقذفوننا به من المسلسلات- بانواع السترات التي لا يصل ثمنها الى ثمن ثوب البطانة التي خيطت بها.....
-هذا لا يمنع ان الصمت مورث للذكاء يا سيد بامبو
و لا أدري لم تذكرت نقاشا كنت قرأته من ايام عن ثرثرة النساء و الذكاء..تمعني في حسن الموافقة عطل انتباهي الى ان البامبو صار اقرب الى استنتاج يوفره له الصمت اكثر من اي شيء آخر..لالا أرجوك لم اقصد...
- تقصد اني غبي لأني ثرثار. ...
تو لايت..
-وصفان في نسق واحد..مبدع انت..هل لك في جولة شطرنج؟؟
- تريد ان تثبت لي العكس..اقصر و ابحث عن سبيل آخر..فمهما تنوع ذكاءك و اطلاعك فالشطرنج آخر ما ستغلبني فيه
مرت الدقائق و الساعات-على خلاف المعهود- كعقاربها...سريعة دون احداث اثر محسوس.لأجدني وجها لوجه مع البامبو و الطاولة بيننا سواد في بياض في سواد في بياض..و أفقت على حركة يده و قد حركت البيدق مربعين الى الأمام...
-يجب ان نتحدث عن شيء عزيزي...و الا فصمتك لن يبرهن على نظريتي
على خلاف عادته لم تزغ عيناه عن الرقعة
-اي موضوع تريد؟
- نظرية النينجا في الأزمة الاقتصادية؟؟
-الموضوع استهلكته الأسبوع الماضي و لا يثيرني ..انظر لنا موضوعا اقرب
بدأت احس انه يريد ان لا يخسر على الأقل في نزال الصمت و ابدو اكثر ثرثرة منه...نظرت لحاسوب التصميم..كانت صفحة المقالة التي قرأتها قبل التشطيب ما زالت مفتوحة...
-ما رأيك في هذه المقالة..الكاتبة تتحدث عن لقاءها مع احدى صديقاتها التي تواعد رجلا..و تنقد هذا السلوك الذي يقول اصحابه انه المسلك الوحيد للزواج ..المقال ايضا يتعرض لأحد من اهل حرفتنا
حرك بيدقا آخر دون نظام جامع بين الحركات..يبدو انه مدرك تماما لانعدام حظوظه ...انعدام الفرص او قلتها قد يؤدي الى ارتكاب افعال عشوائية..تماما كقلة الفرص امام البنت التي تخرج للمواعدة..
-مغرورة...
-البنت التي تواعد؟
- لا..الكاتبة...أين تعيش؟؟
حرك الوزير ثم استطرد
- الا ترى الأحوال من حواليها؟؟ ان اردت ان تطاع فامر بما يستطاع
-ليس أمرها..انما هو امر العلماء و المتخصصين
-فليخرج هؤلاء العلماء الى الشارع ان ارادوا فعلا التخصص
يبدو انه وجد اين يفرغ غيظه و احباطه...بدأت احس بنوع ضيق و حتى تساؤل عن معنى كل هذه اللعبة؟؟ و لكن من جهة اخرى اعترف في قرارة نفسي انه طالما بقيت صامتا امام بنات ينطقن بنفس حجة بنت المقال..نعم ان الله على كل شيء قدير..لكن الحق ان ارادة الله لها علل و فرق بين الجهل بالعلل جهلا من جهة الاقرار..و بين تلمسها و العمل بمقتضاها..و الأمر بالصبر قد يكون نافعا في حالات عين كحالة المتكشفة من الصرع..لكن في امر عام يعظم فيه الخطب حتى تشمل النازلة عامة افراد المجتمع..فليس من عادة الشرع و لا العلم ان يامر الناس فقط بالصبر الا فيما لا حيلة فيه من القدر..فانعدام الفرص و بالتالي انعدام المخارج يؤدي الى كثرة الظواهر الاجتماعية الشاذة كما و نوعا ما يؤثر على الميزان الفقهي و حادثة الرمادة في هذا كالأصل..و لطالما عير حجة الاسلام اهل الفقه في زمانه بكونهم ملكيين اكثر من الملك في تناولاتهم القانونية التي يعزلونها عن قيم المجتمع و الاكتفاء بالوصف النمطي دون التقييد و البحث عن الحلول الاجتماعية الناجعة للأمراض و عدم الأخذ بعين الاعتبار مقاصد الدين و الشرع في صراع الباطل و الحق من ضمان الكرامة الانسانية بتحقيق العدالة الاجتماعية بحسن ادارة الحاجات المستعبدة.. ..فما نفع القاعدة القانونية ان لم تترك أثرا على الواقع المليء بالعنوسة و حالات الطلاق المرتفعة ...لن يجادل احد هنا في تحريم مظان الخلوة..لكن الشأن في سياسة القاعدة القانونية اكثر من انتاجها في حد ذاته..فسياسة العلم هذه اصبحت تندر اكثر فأكثر في علماءنا ...فبينما ما زال البامبو يحرك بيادقه بعشوائية انتبهت الى ان فعلا القواعد القانونية هي كبيادق و ليست الملوك في حد ذاتها..و انما السياسة في تحريكها على النمط الذي يحدد الشرع شدته و مرونته..هذا الفقه قد يتذوقه حتى البامبو لما في صنعته من التجارة التي تعتمد اكثر ما تعتمد على فن التسويق...و لعل لهذا يصح بعض ما يذكره الحداثيون حين يلاحظون على منوال ابن خلدون ان انتقال الخلافة في بيوتات قريش المعروفة بالتجارة من بني هاشم و بني امية كان عاملا حاسما في تسيير دفة الامبراطورية و المحافظة على متانة نسيجها الاجتماعي مع الاتساع المهول الذي يهدد اي نسيج بالتمزق..فكان اختيارا محكما ان توضع الرسالة في هذا الموضع حين كانت العقيدة السائدة في المواضع الأخرى من العالم هي اعطاء الأولوية للشخصية العسكرية في ابتغاء القوة...ففن التسويق كما يعلم من خالطه فطرة او احترافا او تعلما أساسه اتقان الخلطات بين الشر و الخير..الأسود و الأبيض حين انزالها في ارض الواقع دفعا بالتي هي احسن و ادراة للممكن في سبيل استجلاب مزيد من القوة و التحكم ..و كأنه اول درجات السياسة و آخر درجات الادارة...
فقاعدته الذهبية : لا تكذب ابدا..لكن ليس ضروريا ان تقول كل الحقيقة...فيها نوع من المكر الحسن -المقابل للمكر السيء- في ادارة الحقائق بحسب عموم الحاجة اليها و المفاوضة بحسب الباطل المدفوع قبولا به او رفضا
نفتقد مثل هذا المكر في كثير من علماءنا يرمي بهم كولاة امورنا بين اوساخ العوام و شرورهم و الصبر على اذاهم على المستوى الفكري و الفقهي ان لم يكن ممكنا على المستوى السياسي الاداري..نعم هو موجود و معاين في بعضهم فلا يزال قائم لله بحجة في خلقه..لكن في اعصارنا غلبة الانطوائية في العلماء او قل ضعف الكاريزما الشرعية التي تلمسها كثرة فقط في السابقين..و البعض يتورع عنها في رهبنة جزئية لا تراعي خصوصية الخصم..فنعم لا شك ان كتبا كالحكومة السرية و احجار على رقعة الشطرنج..تنطوي على تضخيمات ساذجة..لكن لا ينفي الحق الذي فيها من ان العالم يسير منذ قرون بهذه الطريقة..عصابات و جماعات و رجال..و كم مرة قيل ان خصومنا لا يتورعون من التصريح ان الحرب و الصراع سيحسم في اسلوب العيش و طرائق الاجتماع..و اهم جيوشهم هي كتائب الباحثين و العلماء في تطوير هذه الطرائق و صياغة القوالب التطبيقة الواقعية الميسرة للحلول الاجتماعية حتى يفرغوا فيها معتقداتهم و اصول تقاليدهم الرومانية و اليونانية حتى لو اضطروا الى سرقة نماذج الخصم...و هنا قلة قليلة فقط من علماءنا معتنية بصياغة هذه القوالب الواقعية و عامة العلماء -ان استثنينا الاقتصاديين- يحسبون ان الفتاوى و المواعظ كافية في هذه الحرب...و لهذا باستثناء النموذج الاقتصادي الاسلامي..ما زال النموذج الشرعي و القانوني و الاجتماعي الاسلامي لا يحقق كبيرتقدم في المدافعة مع النموذج الغربي على ارض الواقع...و يزيد اكثر فأكثر من الهوة بين الطبقات السفلى و العلماء كلما قلت قدرتهم على المنافسة في تسويق السلعة التي عبر عنها القرآن غير ما مرة بأنها تجارة لن تبور...نعم بلفظ القرآن في غير ما آية هذه تجارة ..و في هدي النبي صلى الله عليه و سلم من انواع المعاملات التسويقية و حسن التوازن بين القضية السياسية و القضية القانونية ما نفتقده كثيرا اليوم و امثلته كثيرة : لا يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه...لا يبع حاضر لباد...و احسن تسويق للسلعة هو جودتها ثم جودة عرضها....فان كانت لديك اجود المبادئ في السوق..لكنك لا تحسن قولبتها في الصور و الصيغ الممكنة تقريبا و تبسيطا للذهن بالتعليم و للواقع بالتطبيق و التطوير..فلا تسألن عن علة الكساد..و هذا من الحق الذي تنتقد به الحركة الاسلامية من خلوها من برامج و مشاريع..و الحداثيون يستغلون كلمة الحق هذه في تبرير باطلهم لعزل الاسلام بقولهم ان ليس فيه مشروع و لا برنامج ...ودخول العلماء بكثافة في اتون هذا الصراع تنظيرا و تطويرا على الأقل من الوجهة الفكرية و الفقهية و الاجتماعية هو اكبر رد على العلمانيين الزاعمين للفصل بين الدورين الديني و الدنيوي...
-و كيف تريد حضرة ابي الهول ان ننزل العلماء الى الشارع؟؟ ندعوهم الى الملاهي و المراقص.؟؟
حرك الفيل و ضحك ...
- ليس القصد..لكن فليجدوا الحل...ليش هم علماء ؟؟
لعلمه الذين يستنبطونه منهم...لطالما اشعرتني هذه الآية بطابع الوحدة و العزلة في العالم مع كونه مختلطا الى الثمالة بالناس...فالعلم عازل بطبعه...و من هنا ياتي تميز العالم و فضله على العامي..من جمعه بين الوحدة التي لا يطيقها العامي و الاجتماع الذي لا يطيقه العابد الراهب..ما يورث في طبعه من الشجاعة العلمية و الفضول المعرفي ما يستحق به ارث النبوة ..و بالتالي ارث سياسة المجتمعات...و في مسالة المقال هذه لا يبعد الأمر كثيرا..فمع توافر هذا الطبع الهجومي المنضبط سينطلق الاستنباط من قلقه لقلة الفرص امام الشباب لصياغة حلول من نفس مواد الشرع و اطاراته..و اعادة صياغاتها..دون التقيد بالاطار القانوني الجاف لتجاوزه لتدابير اجتماعية مساعدة توفر مصلحة فرص تلاقي الشباب مع درء المفسدة من تحصبل اكبر نسبة من تواجد المحرم و اقل نسب الخلوة المحرمة ..فليس الحل في دفن الرأس في التراب و انكار جانبنا الحيواني الملتصق بضعفنا المبرر لوجودنا ..فبدون اللقيا و بدون مناخ اجتماعي تكثر فيه نقط الالتقاء بين الجنسين يمكن لأحدهما فيه ان يقع من الآخر على بيان لما تطلبه نفسه...لا يستغرب ان تقل الدوافع في الاقتران و تكثر العوانس دع عنك انعدام الفرص للمطلقات ..و نعم الشهوة الجنسية لا تفسر كل شيء كما قال فرويد لكنه على حق في ان لها دورها الكبير في بث الحياة في شرايين اي مجتمع و اضفاء النضرة على ديناميكيته اذ فيها يكمن جزء كبير من دوافع النفس الانسانية ..فالاسلام ما جاء مبطلا للشهوة و لا معدما لها و انما مقيدا و موجها و محفزا في اتجاهها الصحيح..و الأمر بالصبر فيما تحصل به الباءة هو اشبه بالأمر بوجئ الشهوة و قتلها..و حين الرجوع الى سير الماضين في كتب التاريخ و الأدب تجد ان امثال هذا المناخ كان متوفرا بكثرة بحيث يقف الرجل على ما يجذبه من المرأة او العكس و لا تبقى للخاطبة الا استقصاء ما يجذب الرجل او المرأة من صفات الجسد ...و هذا المناخ هو جزء فقط من المناخ العام الذي يجب ان يسود في اي مجتمع ينوي الصمود امام الغزو...و الجانب الآخر قد وصل الى مرحلة تتضافر فيه جميع العلوم من الاقتصادية الى السياسية فالقانونية فالنفسية فالمحضة لتوفير و تطوير هذا العيش لعلهم يفوزون بالتحدي..و الباطل لم يظهر بعد على الحق اذ قلوب الناس ما زالت تتبع الحق و ظهور الباطل لايكون كما قال الامام احمد في المحنة الا بان تنتقل القلوب من الهدى الى الضلال..و املنا ربما لم يصل بعد الى المهدي و لا المسيح عليه السلام بقدر الأمل في خروج علماء يحسنون فهم مقادير المزج الحاصل بين الخير و الشر و وسائل الفصل على حسب الامكان و يلعبونها صح كما لعبها الوزير ابن عمار...
حركت الوزير و انا انظر الى الفصل التام بين الرقعة البيضاء و السوداء ...و سألت..
-و انت من نفسك.. أتتوقع انهم سيجدون الحل؟؟
-هي معركتهم...ان شاؤوا العيش يجب عليهم ربحها..أما انا فمعركتي قد ربحتها ...
أحسست بثقة زائدة في كلامه و لم الحظ مع التفكير ان نظرته الضائعة تبدلت...منعني الاحساس بابتسامته ان اسأل سؤالا غبيا عن معركته و انتظرت بقية كلامه بينما أرمقه يحرك وزير الأندلس:
-ربحتك بأبسط خطة يا ذكي...كش ملك!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق