السبت، 28 سبتمبر 2013

جواب شيخ الاسلام الاسماعيلي على شبهة محاولة النبي صلى الله عليه وسلم الانتحار

قال الإسماعيلي: موه بعض الطاعنين على المحدثين فقال كيف يجوز للنبي أن يرتاب في نبوته حتى يرجع إلى ورقة ويشكو لخديجة ما يخشاه، وحتى يوفى بذروة جبل ليلقي منها نفسه على ما جاء في رواية معمر؟ قال: ولئن جاز أن يرتاب مع معاينة النازل عليه من ربه فكيف ينكر على من ارتاب فيما جاءه به مع عدم المعاينة؟

قال: والجواب أن عادة الله جرت بأن الأمر الجليل إذا قضى بإيصاله إلى الخلق أن يقدمه ترشيح وتأسيس، فكان ما يراه النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة ومحبة الخلوة والتعبد من ذلك، فلما فجئه الملك فجئة بغتة أمر خالف العادة والمألوف فنفر طبعه البشرى منه وهاله ذلك ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال، لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه وينفر طبعه منه حتى إذا تدرج عليه وألفه استمر عليه، فلذلك رجع إلى أهله التي ألف تأنيسها له فأعلمها بما وقع له فهونت عليه خشيته بما عرفته من أخلاقه الكريمة وطريقته الحسنة، فأرادت الاستظهار بمسيرها به إلى ورقة لمعرفتها بصدقه ومعرفته وقراءته الكتب القديمة، فلما سمع كلامه أيقن بالحق واعترف به، ثم كان من مقدمات تأسيس النبوة فترة الوحي ليتدرج فيه ويمرن عليه، فشق عليه فتوره إذ لم يكن خوطب عن الله بعد أنك رسول من الله ومبعوث إلى عباده، فأشفق أن يكون ذلك أمر بدئ به ثم لم يرد استفهامه فحزن لذلك، حتى تدرج على احتمال أعباء النبوة والصبر على ثقل ما يرد عليه فتح الله له من أمره بما فتح قال: ومثال ما وقع له في أول ما خوطب ولم يتحقق الحال على جليتها مثل رجل سمع آخر يقول: "الحمد لله " فلم يتحقق أنه يقرأ حتى إذا وصلها بما بعدها من الآيات تحقق أنه يقرأ، وكذا لو سمع قائلا يقول: "خلت الديار" لم يتحقق أنه ينشد شعرا حتى يقول: "محلها ومقامها" انتهى ملخصا. 


ثم أشار إلى أن الحكمة في ذكره صلى الله عليه وسلم ما اتفق له في هذه القصة أن يكون سببا في انتشار خبره في بطانته ومن يستمع لقوله ويصغي إليه، وطريقا في معرفتهم مباينة من سواه في أحواله لينبهوا على محله، قال: وأما إرادته إلقاء نفسه من رءوس الجبال بعدما نبئ فلضعف قوته عن تحمل ما حمله من أعباء النبوة، وخوفا مما يحصل له من القيام بها من مباينة الخلق جميعا، كما يطلب الرجل الراحة من غم يناله في العاجل بما يكون فيه زواله عنه ولو أفضى إلى إهلاك نفسه عاجلا، حتى إذا تفكر فيما فيه صبره على ذلك من العقبى المحمودة صبر واستقرت نفسه. قلت: أما الإرادة المذكورة في الزيادة الأولى ففي صريح الخبر أنها كانت حزنا على ما فاته من الأمر الذي بشره به ورقة وأما الإرادة الثانية، بعد أن تبدى له جبريل وقال له إنك رسول الله حقا فيحتمل ما قاله، والذي يظهر لي أنه بمعنى الذي قبله، وأما المعنى الذي ذكره الإسماعيلي فوقع قبل ذلك في ابتداء مجيء جبريل، ويمكن أن يؤخذ مما أخرجه الطبري من طريق النعمان بن راشد عن ابن شهاب فذكر نحو حديث الباب وفيه: "فقال لي يا محمد أنت رسول الله حقا قال فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق جبل " أي من علوه."

انتهى كلام الامام الاسماعيلي و هو جواب جامع اورده الحافظ ابن حجر في شرحه بعد ايراد كلام لعلماء في اعتبار زيادة البلاغ  بان النبي صلى الله عليه و سلم كان يريد الانتحار من هول صدمة الوحي  من كلام الزهري و انه قال بلغنا للدلالة على انه لا يرويها بنفس اسناد الحديث و ان البخاري يرى ضعفها و لم يوردها الا لبيان ضعفها و لهذا اوردها تعليقا و هو قول له حظه من النظر...و ان كان الرأي ان الامام البخاري و ان كان أعلم الناس بالعلل و بما في مراسيل الزهري و بلاغات الواقدي و عنعنات ابن اسحاق و أمثالهم الا أنه كان من أفضل الخبراء ممن يحسن أن يفرق بين مناهج اهل السير و المغازي و بين مناهج المحدثين المتشددة , و ما أورده تعليقا الا لان كتابه أصلا مخصص لأحاديث الأحكام العلمية و العملية الكبرى و اصول الاسلام فلا يصح دخول هذا الخبر في صلب كتابه اذ لا يستنبط منه أصل من الأصول و لا هو على شرطه الشديد فيها , و ان كان لاينفي ان يكون للخبر صحة عند البخاري في غير شرطه كما هو معروف من سيرته في التعاليق كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده التي قامت عليها حروب طاحنة بين المحدثين في اتصالها و تحديد موقف البخاري منها و خلافهم في اشتراطه ثبوت السماع و لهذا ربما كان الاقتصاد في استيعاب البخاري للصحيح ربما قول من قال من خبراء الحديث ان كل حديث ينشئ اصلا من الأصول و لم يورده البخاري الا و له علة قادحة تمنع من الاحتجاج به و ان كان يرى صحته خارج الصحيح على غير نهج المحدثين اذ رأيه من رأي الامام احمد و غيره من كبار المختصين و الله أعلم أن نهج المحدثين انما يربط بالاصول العملية و العلمية الكبرى للاسلام المحددة للمصالح و المفاسد المنظمة للحلال و الحرام و الشاملة نفعها و دفعها تكرارا يوميا لأغلب المسلمين ...اما غيرها من الحوادث و الأخبار و الفتن والملاحم و التفسير و المغازي فلا ...لكون الحاجة اليها اقل و خطرها اقل و بالتالي منطقيا بديهي ان لا تأتي في العملية الطبيعية للنقل بنفس القوة و لا ان تكون لها دعامات و اصول نقلية قوية كالأولى - و هذا مما بين الشيخ الكوثري رحمه الله جنايات بعض المحدثين الشافعية من المتكلمين المتأخرين على نهج الحنفية فيه مع أنه من صلب نهج المحدثين الأوائل- و هذا المهيع هو من الأصول العقلانية المهمة لعلم المصطلح الحديثي القديم و من اصول علم العلل عندهم المبين لعظمة فقههم في المواءمة بين علوم العقل و النقل و تكوين نظرية المعرفة في المرويات الشفهية,و بمثله يستضاء في هذا الحديث الذي يسلم فعلا ان البخاري لا يرى صحته على الموجه المرضي في ابواب الأصول و الحلال و الحرام و لكن لا ينفي اعتقاده لنوع صحة اصله بل و الاحتجاج به في غير الحلال و الحرام و اصول الاسلام , و الا فايراده من البخاري على ما عرف من سيرته اشارة منه الا وجود أصل له بل و الاحتجاج بنوع من العلم فيه اذ و ان كانت مراسيل الزهري و بلاغاتها من اضعفها الا انه من قواعد المحدثين ايضا اعتبار اعتناء رواية الراوي لما يرويه و تخصصه فيه خاصة ان كان فقيها مبرزا لما يرويه و هذا الحديث مداره على الزهري و عامة تفاصيله منه ممايدل على اعتنائه به فلا يبعد ان يكون ما رواه بلاغا واقعا له من طريق صحيحة خاصة ان توبع فيدل على انه اصلا صحيحا و ان كان الزهري يتعمد عدم التصريح عن بعض مصادره حتى لا يؤثر على سمعة بحثه العلمي كله بما فيه ما صح منه و يضعفه و هي خاصية معروفة فيمن يتعاطى البحوث العلمية يجد لها اشفاقا من ادنى نقد او ادنى عيب  و يلجأ الى تعمية بعض مصادره في بحثه العلمي المكملة له اشفاقا على البحث ككل كاشفاق الأب على بناته و لهذا لم يرحم المحدثين الزهري من سيف نقدهم على جلالته فيهم و منزلته التي تضاهي منزلة نيوتن عند الفيزيائيين...لكن البخاري يبدو لي انه اخذ بعين الاعتبار و المتابعة و اختصاص الزهري بالحديث لتقويته في الدلالة على مقصود بابه في الترجمة من ربط الرؤيا و التعبير بنظرية المعرفة في الباب الأول من بدء الوحي و ان كان هو نفسه يسلم ان الزيادة لا تبلغ مبلغ الاحتجاج الذي بلغها الحديث الصحيح لكن يبدو ان في نظر البخاري تبقى الزيادة فيها نوع حجة يقوي حقها المقطوع به على باطلها المحتمل , و هذا في نظري هو الصواب اذ هذا الحديث حجة على اهل الكفر و الالحاد من حيث ظنوا انه حجة لهم , فما في الخبر هو أدل دليل على واقعية هذه الملحمة النبوية , و على واقعية علوم النقل عند المسلمين , اذ كما اورد الامام المتقن الاسماعيلي -و هو من القلة التي جمعت الجلالة في الفقه و الحديث مما قد نعلمه بأكبر قدر لو وقفنا على كتابه النفيس مستخرج صحيح البخاري المفقود الى اليوم- بفهمه القوي الذي عرف عن أهل جرجان من محدثين وفقهاء و لغويين , و كلامه هنا انما كان يدور حول تبسيط مراد البخاري من ايراده في التعليق لما عرف عن شيخ الاسلام الاسماعيلي من تحريه لفقه الامام البخاري و طريقته في الاجتهاد حتى عابه البعض لذلك, و خلاصة طريقته في هذا الحديث ضرب عصافير عدة بحجر واحد :
اولها تحقيق معنى العصمة و ان لا عاصم لأحد و لا عصمة الا لله و لا يخلو احد من النقص و الفقر البشري حتى الأنبياء أنفسهم الذين لا يبلغ أحد مبلغهم من الكمال ... فيسد الباب تماما على عباد البشر من الملحدين الذي يعرضون عن العبادة عن الله و اعتقاد الكمال فيه فما يلبثون ضرورة حتى يعتقدون وعيا او لا وعيا بكمال غيره ممن هو ادنى منه من البشر مفكرين او دولا او انظمة او فكرا او حجرا او كواكبا او ظواهر طبيعية او حتى انانية معتقدة لكمالها ....
ثانيها :تحقيق قول الله سبحانه ان براهينه و ادلته هي كما انها سكينة و شفاء لصدور المؤمنين فانها فتنة و مضلة للكافرين الملحدين الذين استبطنوا في انفسهم رغبة اعلان موت الاله فما من دليل واضح الا و كان فتنة لهم تزيدهم في عمايتهم لعبادة انفسهم و اتخاذ بعضهم بعضا اربابا من دون الله , بينما من آمن بضعف نفسه و صدق في البحث عن اخضاع نفسه و تزكيته بذلك الخضوع لتحقيق حريتها من كل نفس مغرورة ظالمة جاهلة مثلها فانه يرزق من حيث لا يدري فهما يرى في مثل هذه البراهين و الحجج حجة تجعله فوق الملحد بها و اقوى منه لكون اكثر تحررا من عمايات نفسه منه مادام متنبها الى مكمن الداء من نفسه و ملزما لها بالخضوع و ملتزما بكسرها كلما افلتت منه و اغترت , فما ان يرى كيف ان النبي صلى الله عليه و سلم الأقرب الى العيان و كيف تغلب على طبع نفسه باليقين و الصبر و كيف فعلها يوسف عليه السلام و غلبها بالصبر و اليقين و كيف غلبها ابراهيم عليه السلام و داوود اذ أناب , و انهم لم يسلموا من هذه النوازع البشرية الخفية المظلمة و تطهروا تطهيرا...الا و تعلم ان لا يقنط من الأمل في تجاوز نفسه و لا يامن لشرورها...اذ لا ييأس من روح الله و لا يامن مكره الا القوم الملحدون الكافرون الذين قلنا ان مثل هذه الأدلة تنزل على رؤوسهم فتنة و مكرا و استدراجا الا من صدق منهم و قليل ما هم..
ثالتها : الدلالة على المنهج النبوي في العلم اذ الحديث اورده في اصول نظرية المعرفة في الاسلام و بيانها و كيف ان العلاقة بين العقل و النقل و الوحي و الرأي تبتدئ دائما باشكالية الشك و انها ليس فقط علاقة عقلية برهانية كما يقول غلاة الوضعيين المغترين بما اوتوا من العلم قديما و حديثا و انما هي كما يقول اهل الابستمولوجيا الحديثة بعد صراع كبير بين التجريبيين و البرهانيين و الداروينيين و المثاليين و الاجتماعيين ان "أن الحياة هي كلها تجربة عملية تفاعليه لاكتساب المعرفة تدخل فيها القدرات المعرفية الانسانية كلها" كما يقول فلاسفة العلوم و السلوك المتأخرين ككارل بوبر و كونراد لورنتس..لهذا كان الامام البخاري هنا دقيقا و يبدو لي انه كان يرد هنا على السجالات المشهورة بين الوضعيين من المعتزلة و سلفهم من الجبرية الطبيعيين من الجهمية الذين كانوا يجعلون للعقل فقط العصمة و يجعلون اليقين العقلي المرجعية المطلقة العاصمة من الزلل و يجعلون الشك او النظر الواجب الاول بينما هنا الامام البخاري يرد من سيرة النبي صلى الله عليه و سلم في اول تجربة للمعرفة التي سيؤسسها الاسلام ان نفس المعاينة الحواسية التي تؤسس للمرجعية العقلية و منها يستقي العقل مادته اليقينية هي ايضا معرضة لغول الشك و النقض و ان هذه النظرة هي مثالية تنقص من حرية الفكر الحقيقية التي ينشدها الاسلام بجعل شيء ناقص كما لو انه كامل و مرجعية تامة و بالتالي تأليهه تأليها خفيا و لهذا ما تم للنبي صلى الله عليه و سلم و لغيره من الأنبياء تجاوز هذه الاشكالية الا باخضاع جميع قدراتهم المعرفية اخضاعا يعترف بنقصها كلها بما فيها العقل او الحدس او الكشف او ما كان مخلوقا ظاهرا و باطنا-وعيا او لا وعيا بتعبيرنا الحديث- لمن هو اعلى منها و لهذا كان اول واجب عندهم هو هذا الخضوع الضامن للحرية و كان اول واجب هو شهادة لا اله الا الله التي ثبت تواترا لا يغفل عنه مثل هذا الامام الألمعي البخاري انها فقط ما كان يطلبه النبي صلى الله عليه وسلم من كل من أراد دخول الاسلام كونها الشعار الأول للتحرر من اي مرجعية بشرية يمكن ان تستعبد و تستغل الفكر الفردي و الجماعي....
رابعها : دلالة الامام البخاري (ذلك ان كتاب العلم عنده مسبوق بكتاب بدء الوحي و كتاب الايمان الذين هما اول كتابين في الصحيح اشارة الى أنهما المرحلتين التأسيسيتن لنظرية المعرفة الاسلامية..مرحلة الاتصال و مرحلة الخضوع و الايمان الذي يجمع معنى الامانة و الصدق في طلب الدليل و الوسطية توازنا بين النقل و العقل و الغيب و المادة او الشاهد و لكونها من اصول الاسلام لم يورد فيها هذ الحديث الخداج و أجله الى باب التعبير و ربطه بنفس الحديث المذكور في المرحلة حتى لا يفهم انه يخرج من مرحلة الاستئناس الى مرحلة الاحتجاج و مجرد الاشارة الى ان كل من تعمقوا في نظرية المعرفة و ادبياتها و مسرحياتها و اطروحاتها السيكولوجية قديما و حديثا الا و كان اساسهم في نقض الثقة المطلقة بالعقل او الحدس هو ضرب مثال الأحلام و النوم و معلوم ان الصحيح رتب ليدل على هرم الثقافة الاسلامية في جميع مناحيها ترتيبا عبقريا على حسب ما فقهه البخاري من أهميتها مما ورثه عن كبار ادمغة العلم ممن سبقه و ستجد هذا النفس العميق في البناء على هذا الأساس الوجودي ملغزا و مشفرا في كل تراجم ابواب الصحيح يظهر مرة و يخفو مرة أخرى و هي تراجم عبقرية صيغت في اغلب ظني محاكاة على الترتيب الوقفي للسور القرآنية بشكل جامع لنظرة و فلسفة البخاري العلمية و الاجتماعية و القانونية بشكل دافنشي ما زلنا نفك ألغازه لليوم) على اثر هذه البدايات في نظرية المعرفة التي عايشها و اختبرها النبي صلى الله عليه و سلم اثرها في تأسيس النظرية المعرفية التي ستدير و تؤثر على جميع العلوم الاسلامية فيما بعد حتى تخترقها فيروسات العلوم اليونانية و الفارسية و الهندية و الهيلينية و الحرانية و التي سيسري فيها داء الأمم من قبلنا مع تمادي الأمد و طوله و تتجمع كفيروسات سرطانية تنمو مع بحبوحة الدنيا و استئناس خضراء الدمن و حب الدنيا و كراهية الموت و التنافس على الأبهات و المظاهر الى ان تتشكل و تؤسس طواغيت فكرية و علمية و عملية من داخل هذه العلوم التي اتتنا بيضاء نقية جامعة لجوامع الكلم الطيب المؤسس للصحيح الفطري لكافة المجالات ...حتى ستعيد هذه العلوم مرة أخرى نسخة منقحة مزيدة من العلوم القديمة علوم الأوائل الجامدة القليلة الحرية و الكثيرة التقليد و الجدل و الجدال و قلة الابتكار و النفع..و التي يحاول بعثها اليوم غلاة المتكلمين و غلاة دعاة المرجئة من دعاة الطاعة السياسية المطلقة او غلاة الخوارج من مدعي الجهاد بدو قانون و لا ضوابط جماعية و غلاة المقلدة و الصوفية و الرافضة من الداعين للعصمة لاناس اقل قدرا منهم في الغالب و و غلاة الحداثيين و الفلاسفة من دعوتنا الى استبدال اصنام فكرية محلية باخرى مستوردة و الكل لتطبيق الحل الذي يراه هو فقط او جماعته دون الصبر و اليقين بأن الحل سيخرج واقعا من الجميع مصيره يكون غالبا في طرح الحل باعادتنا الى طاغوت من هذه الطواغيت و محاولة تأسيسها او تمتينها او المد من اجل صلاحيتها في الوعي المسلم المعاصر و بالتالي تمديد امد امراض و سرطانات الديكتاتورية و الاستبداد فيه التي تجد اثرها من المعاملات اليومية بين الأسرة الواحدة و حتى اعلى المعاملات بين الأحزاب و الفرق و الحكام و الدول....
خامسها : الدلالة على كون كل ذلك من عند الله اذ لو كان محمد مدعيا لكان في نفسه ممن يخفي ذلك فالعادة انه ان كان هذا الرجل قد اخترع الوحي من عند نفسه لحرص على ان يظهر مظهر الواثق و لا شيء يدعوه للشك او ان يظهر بمظهر الضعيف الحائر الضال و ان يحدث الناس ان الله وجده ضالا فهدى ووجده عائلا فأغنى ...بل من يدعو الى نفسه و يسعى للمجد الى نفسه فانه عادة ما يحرص على ان يظهر بمظهر الواثق بما يقول حتى يتسنى له التلاعب بالعقول كيفما يشاء و هذا المعروف من سير الطغاة و الظلمة و هو الذي جعل من لا يعترف بنبوته ان يعترف بهذا الاشكال اذ سيرة الأنبياء لا تدل على انها نفس سيرة غيرهم من الظلمة و الظغاة الديكتاتوريين الذين لو كان محمد فعلا راعيا يتيما اراد المجد فصنع كل هذا لأخفى هذا كما قالت عائشة و ما كان ليتحدث به و لا ان يظهر بهذا المظهر البشري و يقول للناس انه مثلهم و لا سلطة له عليهم و لا انه عليهم بمسيطر و له مثلهم لا يعلم ما سيفعل به و لا بهم و انه لا حكم له عليهم و انه ليس الا مبلغا عليه البلاغ فقط فما لم يكن من البلاغ فيمكنهم نقده مثل اي واحد منهم و يمكنهم ان يردوا عليه خطأه و انهم اعلم منه في امور دنياهم ما لم يات بلاغ فيها ممن له الحكم على الكل و لا حكم الا له...فهذا الحديث و امثاله و الآيات التي تكلمت عن الضعف البشري في الأنبياء هي من البينات على ان الأنبياء صادقون في دعواهم و انهم لم يريدوا الا الاصلاح ما استطاعوا 
سادسها : أن النبي صلى الله عليه و سلم على خطى الأنبياء قبله كان علميا بالدرجة الأولى..نعم..بهذا المعنى الاصطلاحي الحديث كان الرسول حتى اخر لحظة في عمره باخطائه البشرية التي صوبت له و بتجربته المعرفية كان ذا طابع علمي واقعي في علاقة الوحي بالانسان او العقل او الحدس او الحواس يضرب مثالا على ان هذه المعرفة هي جدلية في طرفيها اليقين و الشك و الظن...اي ليس كل ما هو نقل فهو يقيني او ظني و لا كل ما هو عقل انساني هو يقيني او ظني..و لهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم سيتذكر كل حياته هذه الدروس في المنهجية العلمية التي نرى المناهج العلمية الحديث توجه شططها للاقتراب منها شيئا فشيا الى ان لا معصوم من الشك الا الله , افي الله شك فاطر السماوات؟؟ .ففي الواقع المعرفي كل نتيجة قابلة للدخول تحت مجهر الشك و النقد و التجريب و المرجعية الالهية المطلقة هي التي تشكل الميزان الذي يحدد نسب الشك و اليقين تراتبيا بحسب القرب منها من جهة و موافقتها للواقع نفعا و عملا من جهة اخرى في صراع و تدافع لا يعترف بالعصمة لأي شيء الا لمن وضحت عصمته بهذه المرجعية: الرد لله و الرسول كل مرة و كل أن دون قنوط من الأمل في الله ان يفتح من الشك بابا جديدا او أمن مكر الله ان يكون بيقين ما في شيخ او جماعة او عالم او مجاهد او نظام او كتاب قد أغويت و جعلت تعبد احدا من دون الله من ابي بكر و عمر و الصحابة مرروا بمالك و احمد و البخاري الى الأشعري فالغزالي فالرازي فابن تيمية الى ديكارت او سقراط او نيوتن الى المبادئ الفلسفية الاولى للفلك و العقول العشرة الى المنطق الأرسطي , الى نظام تقليد المذاهب الأربعة و الى فقه الولاء و البراء و دور الاسلام و الكفر الى كتب التاريخ و القديمة و تفريعاتها الى كتب العقائد النسفية و الحنبلية و الاعتزالية و السلفية الى الكتب الصحاح و علوم المصطلح الى الداروينية الجديدة الى مقالات البنا و تحريرات و تقريرات ادهم الى كلمات أينشتين و فلسفة ستيفن هوكينغ...دون ان يعني استواء وقوعها ودخولها جميعا تحت مظلة الشك في الخطا ان تكون فعلا مستوية في نسبة اليقين و الشك في اقوالها فكل من كان منهم اقرب الى المرجعية كل ما كان اليقين و الحقيقة في كلامه اقوى و الشك و الخطأ في كلامه أقل و الاستبداد في معاملاته أقل و الحرية و المسؤولية و الحنيفية السمحة فيها أكثر و الفرقة و التنازع و التعصب بين افراده اقل و الاجتماع و التسامح و التآلف بين القلوب و حسن التعايش في عناصره أكبر...فلا مرجعية معصومة من الزلل منها الا تلك المرجعية الوحيدة و بحسب اضفاء كل من هؤلاء العصمة على شيء من هذا من المخلوقات الى و يفرط من شيء من حريته و يترك لغيره ان يستعبده و يستغله و يتلاعب بعقله...و لهذا ما انفك النبي صلى الله عليه و سلم يقول اننا أولى بالشك العلمي من ابراهيم و من الضعف العملي من يوسف و من الغفلة عن شدة هذه المرجعية الركن من لوط...
سابعها : الدلالة على هذا المنهج الواقعي العلمي في ما عبر عنه اهل هذه المرحلة من البحث عما تحته عمل , و ربط البحث العلمي بالواقع المعاش الانتاجي ...برفض التقليد و الاطلاقية و اليقينية في الانتاج البشري و البعد عن النظرة الاختزالية في العلوم التي تقسم كل شيء الى خطأ و صحيح و ضعيف و ضحيح و أبيض و اسود يقينا سواء بالتأييد او الابطال و من جهة اخرى البعد عن الواقعية العلمية الى مثالية غيبية ميتافيزيقية قليلة الأدلة و بعيدة عن الواقع الذي هو ميدان النظر و ميدان المباحثة و بالتالي الغرق في التعصبات الطائفية و السياسية و التحزبات المعرفية المذهبية و ادخال العلم الى هذا النفق و معه الدين الذي اسس بهذا المعنى على العلم...فاعلم انه لا اله الا الله.. فان كان هؤلاء الأنبياء و لم يخلو من لحظات الضعف و الوهن الفكري و النفسي و النقص فلا يمكن اخذ كل ما يقولونه الا ببرهان التبليغ بانه من عند الله فكيف بمن بعدهم ؟؟؟و لهذا تواتر عن هذا الجيل الرد على الأمر العتيق و التنفير من التقليد , و في نفس الوقت نقد التعالم دون علم متوارث عن كيف تجلت هذه المرجعية العتيقة في الناس في اختلافهم و اجماعهم و ما حددته من ناسخ و منسوخ من حاجاتهم و هما الجانبين الذين يهلكان المعرفة و اتت على هذه النظومة حتى صاغوا لها لفظي السنة و الجماعة كلاهما مانعان من التقليد و من السير المنبت الخارج عن الجماعة..
ثامنها الموضوعية العلمية في المجال العلمي و التعليمي و التطبيقي و النقد الذاتي من انكار المنكر و الأمر بالمعروف و التناصح في دياليكتيكية علمية و تعليمية او ما نسميه المراجعات العلمية اذ من أسسها ايراد المعرفة العلمية كما هي في الواقع سواء كانت الأدلة تظهر لك انها لك او عليك و لهذا كان من منهجهم و قواعدهم ان المنتسب الى الاسلام الحق انما يورد ما له و ما عليه حتى لا يكون فهمه هو ان هذا الدليل ضد الاسلام فهما ديكتاتوريا بظنه انه قد وافق حكم الله و قد لايكون وافقه و بهذا يتعلم الصبر على المخالف و عدم الخوف من الحق و بالتالي عدم ادعاء امتلاك الحقيقة 
تاسعها : بمناسبة التدرج بين الشك و اليقين و الضعف و القوة بحسب القدرة الفردية الانسانية كما هي قدرة الأنبياء فما دونهم احدثت نفس التدرجات في الأصول كما في الفروع و مست سائر العلوم ...فكان تنظيم درجات الاصول بحسب افادتها لليقين من كتاب ثم سنة اقل يقينا ثم اجماع اقل يقينا ثم قياس ثم قول الصحابي ثم اجماع اهل المدينة ثم اجماع الجمهور ثم اجماع اهل المدينة و اهل الشام و اهل العراق ثم اجماع اهل فن من الفنون ثم الاستحسان ثم الذرائع ثم المصالح المرسلة الخ الخ...و في الفروع و التطبيقات الفقهية جعلت الأمور الكبرى على ما رتبت عليه القوانين المدنية الحديثة من القواعد الفقهية الكبرى الضامنة للحقوق الكبرى كحق الحياة و الملكية و الحرية الشخصية و هكذا حتى وصلت الى ادنى شعب الايمان ...
عاشرها قي منهج البخاري و ان لم تكن الفائدة من صلب الحديث احترام التخصصات و التدرج فيما بينها فيما بحسب قربها من المرجعية المطلقة فما المنهاج الحديثي في الأحكام كمنهج السير و المغازي و لا هذا بنفس القوة و الخصائص كمنهج اصول اللغة و لا هذا كمنهج التاريخ و الدول و التراجم و لا هذا كمنهج العلوم الطبيعية و لا هذا كمنهج الآداب و الفنون و سائر اللهو بعد ذلك...فكلها ان سبرت كلام القدماء وجدتها متدرجة تسامحا و حزما و حرية و تقنينا بحسب درجاتها فكان هذا الوعي دافعا لحسن تطور العلوم الاسلامية و العقل الاسلامي و سلامته من الجمود و الانفلات و الفوضى لمدد طويلة قبل ان يسقط شان كل موجود يرتفع
و هذا الفرق بين مناهج العلوم و الذي تجده ملموسا في علوم كل امة صعدت لكون ينتج عن الخبرة العلمية الجماعية للوسط العلمي بنسبية الحقائق العلمية و الواقعية و تراتبيتها , هذا الفرق و خاصة الفرق بين مناهج المحدثين و المؤرخين هو الذي لا ينقضي منه العجب اليوم لعدم اعتباره من كثير من الباحثين  , و اصل التشدد في الحديث دون التاريخ و المغازي و الآداب و غيرها  له علاقة تمس جانب الفقه و التشريع من جهة و جانب النقل من جهة أخرى ..
 فمن جهة النقل:  علة التشدد  ان احاديث الأحكام و الأصول و الحلال و الحرام تقوم بامور تكثر الحاجة اليها و تعم بها البلوى و جعلت بعد القرآن من المجالات الاكثر اهتماما بها , و لهذا كان الشرط فيها قبول الأحاد فيها دون الالتزام بالتواتر كما اشترط في القرآن لأنه الأمر الذي كان يشغل المرتبة العليا في القرن الأول بعد النبي صلى الله عليه و سلم و استوعب قناة النقل الكتابية و الشفوية كلها فلا يعقل ان يقبل فيه الا التواتر اذ اشتغال كهذا لا يمكن ان ياتي آحادا ...و ترخص في الأحاديث لنزول رتبة الاهتمام بها في العصر الأول عن رتبة القرآن فمنطقيا و عقلا ستأتينا الأحاديث برتبة أقل في النقل , و هي في نفسها بعضها اعلى درجة من بعض فجاءت اخبار الأحكام في الدرجة الرفيعة من النقل لأنه منطقيا وواقعيا الحاجة تكثر اليها يوميا ثم تلتها الفضائل و الأخلاق , ثم تلتها المغازي و السير و ما يستقبل من النبوؤات في الأزمنة المقبلة و التفسير و فضائل الصحابة و فتاويهم و أمثالها لكون الجماعة انذاك كانت اقل اهتماما بها و بنقلها فكيف باحكام اللغة و غريبها و الأشعار و اخبار الجاهلية و الأنساب و الوقائع التاريخية المفردة التي عادة ما لا يكون الاهتمام بها يوميا الا للمتخصصين بها و قد تتواتر او تصح فقط عند المتخصصين بها (ان استثنينا ما كان اثره شاملا لكل الناس او غريبا تتوافر الدواعي على نقله فهذا ينقل بالتواتر من كل هذه الأصناف ) فمنطقي جدا ان تأتي الأخبار فيها بنقل منحط الرتبة عما سبق لاستيعاب انواع الأخبار السابقة لقناة النقل التابعة أصلا لحاجات الناس اليومية و الذين عادة لا ينقلون الا ما يحتاجون اليه فكيف ان علمنا ان الناس في القرون الأولى كانوا عمليين اكثر تدربا و تحققا بالاشتغال بما ينفع و ترك ما لاينفع . و لهذا تعلم قدر الجناية على من شن الغارة على امثال الامام الطبري و الامام ابن سعد و امثالهم في اعتماده لمرويات من هو عندهم كذاب في الحديث و شيعي محترق او ما شابه , مع انه اهل اختصاص بنقل هذه الأمور و لا يقبل ما عندهم عند اهل التاريخ الا بعد السبر و المقارنة فلا ترد مطلقا و لا يشترط لها شروط اهل الحديث و لهذا فمثل قصة الغرانيق مثلا او مثل مسألة سب بني امية  من المنقولات التاريخية مثلا تعددت طرقها و استفاض نقلها في كتب الحديث و المسائل و اللغة و الأدب و التاريخ مما لم ينكر وقوعه اهل الاختصاص لعلمهم بأن انتشارها دون نكير و استفاضة نقلها من طرق متعددة و ان كانت منحطة الرتبة كاف للجزم بأن لها اصلا تاريخيا و لهذا جزم بها من جزم بها من ائمة اهل الحديث و الفقه ,  ثم يأتي من يأتي و يحاكم هؤلاء الأئمة بموازين الحديث المشددة ..فان كان بعض الاخوة قد يكون مصيبا في ان احاديث مسلم في غير الأصول و الاحتجاج لا تسلم من النقد و لا تتجاوز القنطرة و لا يرى دخولها في الاجماع , فضلا عمن يرى من المبالغين في هذا الرأي ان البخاري استوعب الصحيح كله على نظره و ان ما تركه لا بد و ان تكون له علة قادحة او غير قادحة اوا ان مسلما لم يفعل الا ان ركب مستخرجا على كتابه , لكن في الجهة المقابلة لا يزول العجب كيف لا يقبل روايته هذه في امور تاريخية يجزم بوقوع ما روي باقل مما اشترطه مسلم على نفسه ...فضلا عن العجب ان يستنكر السب مثلا بين الصحابة مثلا فضلا عن اشياع الأموييين و العلويين  و قد وقع بينهم القتال و القتل و القتل و القتال اشد هولا و منكر أفظع من السب و قد وقع من الطرفين و ما كان ذلك ليحط من رتبة الطرفين و لا ان يساويهما فيها , و لا ان يجعل العصمة من الأمرين لكليهما رضي الله عن الجميع
أما من جهة الفقه فان الباعث على التشدد منشاه المقاصد الكبرى للديانات التي أتت في قيمها الكبرى المتفق عليها و القطعية بين اهل الديانات جميعا لحفظ الحقوق و الحريات , و التشريع و التقنين عنف و تضييق و استبداد في اصله خاصة عند من كان الراجح عنده اصلية الشر في الناس, و لهذا كان منزع كبار الأنبياء و بعدهم كبار ورثتهم ممن فقهوا هذا منهم من المحدثين و الفقهاء على السواء الميل نحو تقليص سلطة القانون الوضعي البشري ما امكن و حل المنازعات ما امكن دون تدخل القانون و لهذا عيبت كثرة المسائل قبل وقوعها و عيب من سأل عن اشياء ان تبد له تسؤه و جعل من الجرم الكبير من سأل شيئا فحرم لاجل مسألته و ذم التهافت على الفتوى و ان اجرأهم عليها اجرأهم على النار و ذم التشوف للقضاء و الامارة و لو بين اثنين و ندب الى الستر و اصلاح الأمور قبل الوصول للتنازع امام القضاء , و ذمت شقشقة المسائل و تفريعها و تتبعها دون داع واقعي . كل ذلك هربا من ان تعرض الحقوق و الحريات لقيد بشري باسم الهي و هو احتمال قائم دائما حتى بين أتقى الناس , فكان السعي الى ترك الناس و حقوقهم و حرياتهم ما أمكن تنظيمها دون تنازع و فساد سعيا نحو توسيع دائرة الحريات و الحقوق و تقليص دائرة احتمال  الاستبداد البشري ما امكن لهذا كان التشدد في رواية الحديث بوضع الفلترات الواقعية الشديدة الاحكام ما امكن لخطورة تقييد الحقوق و الحريات دون اذن ممن يحق له الامر لاحقيته بالخلق, لهذا تجد  في الغالب كل من كان اكثر تشددا في روايته بالضوابط الواقعية الملموسة واقعا بين الناس - لا بالهوى و الظن الفردي - كان اكثر تحررا في فقهه و اكثر تسامحا و اكثر نفعية لكونه أكثر ربطا للناس في فقهه بامر الله الكوني و الشرعي لا لامره هو الذي يظنه انه ملزم لأنه يوافق حكم الله فقط بمجرد ما ظهر له في اجتهاده و فتواه او اجتهاد طائفته او مذهبه و العكس بالعكس يكون الأمر في الغالب ..و لهذا قال سفيان الثوري انما العلم الرخصة من ثقة أما التشدد فيحسنه كل أحد ...


ما زال في الحديث الكثير من الفوائد ان وضع في سياقه قد نبحر بحثا عنها مع الوقت ان شاء الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق